دراسة أدبية لقصيدة النابغة
(كليني لِهَمٍّ)
1- كِلينيِ لِـهَمٍّ يـا أُمَيْمـَةُ نَاصـبٍ ... وليل أقاسيه بَطِيء الكـواكـبِ
2- تطاولَ حتى قلتُ: ليـس بـمنقضٍ ...وليس الذي يرعى النجوم بـآيبِ
3- وصدرٍ أراحَ الـليلُ عـازبَ هـَمِّهِ .... تضاعف فيه الحزنُ من كل جانِب
4- عليَّ لعمـرو نـعمةٌ بـعد نـعمةٍ ...لوالِدِهِ ليسـت بـذاتِ عَقـَارِبِ
5- وَثِقْتُ له بالنصْرِ إذ قيـل قد غَزَتْ ..كَتَائِبُ من غَسَّانَ غـيرُ أشَـائِبِ
6- بنو عمه دنْيَا وعـمرُو بـنُ عـامرٍ ...أولئك قومٌ بأسهُم غـيرُ كـَاذِبِ
7- إذَا ما غزوا في الجيش حَلَّقَ فَـوْقَهُمْ ... عصائبُ طَيْرٍ تهتدي بِعَصـَائِـبِ
8- يُصَاحِبْنَهُمْ حـتى يُغِـرْنَ مُغـَارَهُمْ ... من الضَّارِيَاتِ بِالدِّمَاءِ الـدَّوَارِبِ
9- لهنَّ عليـهم عـادةٌ قـد عـَرَفْنَها ... إذَا عُرِّضَ الخَطِّيُّ فَـوْقَ الكَوَاثِبِ
15- على عارفاتٍ للطـعانِ عَـوَابِسٍ ... بِهِنَّ كلُومٌ بـين دَامٍ وجـَالِـبِ
11- إذَا اسْتُنْزِلُوا عَنْهُنَّ لِلطّعْنِ أَرقَـلُوا ... إلىَ المَوْتِ إرْقَالَ الجِـمَالِ المَصَاعِبِ
12- ولا عَيْبَ فيهم غَيْرَ أنَّ سُيـوفَـهُمْ ... بِهِن فُلُولٌ مـن قـِرَاعِ الكَتـَائِب
13- توُرِّثْنَ من أزْمـَانِ يَـوْم حـَلِيْمَةٍ ... إلى اليَوْم قد جُرِّبـْنَ كلَّ التّجَارِبِ
14- تَقُدُّ السَّلُوقِيَّ المُضَـاعَفَ نَسْـخة ... وتُوقدُ بالضـُّفَّاحِ نار الحُبَـاحِـبِ
15- لَهُمْ شِيْمَةٌ لم يُعـْطِهـَا الله غَيْرَهُمْ ... من الجوب، والأحلامُ غيرُ عَوَازِبِ
16- رِقَاقُ النـعَالِ طَيِّـبٌ حُجُـزَاتهُم ... يُحَيّون بالرَّيْحَانِ يَـوْمَ السّـبَاسِب
17- يَصُونُونَ أَجْسَاداً قَدِيْمـاً نَعِيْمُـهَا ... بِخالِصَةِ الأرْدَانِ خُضْرِ الـمَنَاكِبِ
18- ولا يحسَبُونَ الخَيْرَ لا شـرَّ بَعْـدَهُ ... ولا يحْسَبُونَ الشـَرَّ ضرْبَـةَ لاَزِبِ
19- حَبَوْتُ بِهَا غَسَّانَ إذْ كنتُ لاحِقاً ... بِقَوْمي وَإذْ أَعيَتْ عَليَّ مـَذَاهِبي[1]
1- مناسبة القصيدة:
كان النابغة الذبياني من شعراء المناذرة حكام الحيرة بل إنه من الشعراء المقدمين عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة بدليل أن النعمان كافأه على بعض قصائده بمائة ناقة، فأخذ الشعراء الآخرون وغيرهم من جلساء الملك يحسدونه على مكانته ويسعون بالوشاية عند الملك، وفي هذه الأثناء حدثت حرب بين الغساسنة ملوك الشام وقبيلة ذبيان التي ينتسب لها الشاعر، وقد انهزمت ذبيان وقتل منها رجال وأسر آخرون وسبيت النساء فرأى النابغة أن مدح الغساسنة في تلك الظروف التي تحيط بقبيلته أمر مهم، فانتقل إليهم وأقام عندهم وقال فيهم قصائد منها قصيدته التي بين أيدينا.
2- شرح الأبيات:
(1) كليني: دعيني. أميمة: ابنته. ناصب: متعب. بطيء الكواكب: نجده تسير سيراً بطيئاً.
المعنى: دعيني يا بنيتي لهمومي المتعبة واتركيني أقاسي هذا الليل الطويل الذي لا تسير نجومه إلى المغيب وإنما هي تتثاقل في اتجاهها إلى مغاربها.
(2) الذي يرعى النجوم: الصباح. آيب: راجع.
المعنى: لقد زاد طول ليلي حتى ظننت أن ليس له نهاية وأبطأ الصباح في الظهور حتى ظننت أنه لن يرجع إلى عادته في تبديد الظلام.
(3) العازب: الذي يبيت بعيداً عن أهله.
المعنى: لقد رد هذا الليل على صدركما الهموم التي نسيتها في النهار فتجمعت في صدري فتضاعف الحزن والألم والأسى بين ضلوعي، لأن الليل يجمع الهموم والنهار يفرقها.
(4) ذات عقارب: ذات أذى.
المعنى: لقد منَّ عليَّ عمرو بخيرات كثيرة وأعطاني والده مثلها وهي خيرات لا يخالطها أذى ولا تتبعها منة.
(5) أشائب: أخلاط.
المعنى: لقد تيقنت من انتصار الملك على أعدائه؛ لأن جيشه يشتمل على أبناء الغساسنة دون غيرهم؛ فذلك الجيش لا يجمع أخلاطاً من القبائل وإنما هو مقتصر على غسان.
(6) تلك الكتائب التي يتألف منها الجيش إنما هي مؤلفة من بني عم الملك الأقربين الذين هم آل جفنة ومن أبناء جده الأعلى المعروف بعمرو ابن عامر.
(7) عصائب: جمع عصابة وهي الجماعة.
المعنى: إذا سار جيش الغساسنة للغزو فإنه يطير فوقه مجموعات من الطيور الكاسرة فإذا رأتها الطيور الأخرى تبعتها فهي تنتظر القتلى من أعد أدائهم.
( الضاريات: المتعودات، الدوارب: المدربة.
المعنى: إن تلك الطيور الجارحة تصاحب جيش الغساسنة، فإذا أغار الجيش على الأعداء ومزق أجسادهم فإن تلك الطيور تنقض على الأجساد المطروحة على الأرض.
(9) الخطي: الرماح المنسوبة إلى بلدة الخط (القطيف) في شرقي المملكة العربية السعودية. الكواثب: جمع كاثبة وهي ملتقى الرقبة بالكتف.
المعنى: لقد اعتادت تلك الطيور على مرافقة ذلك الجيش، فعندما ترى الرماح قد عرضت على كواثب الخيول فإنها تعرف مقصد ذلك الجيش.
(10) عوابس: أصل العبوس تقطيب ما بين الدينين. كلم: جروح. الجالب: اليابس.
المعنى: إن ذلك الجيش قد أخذ عدته، ففرسانه يمتطون الخيول الصابرة المتعودة على الحرب، فالحرب ليست جديدة عليها بدليل أن الجروح جديدها وقديمها تتخلل أجسام تلك الخيول.
(11) أرقلوا: عدوا وأسرعوا. المصاعب: جمع مصعب وهو الفحل الذي لم يذلل.
المعنى: إن أولئك الفرسان ينزلون عن خيولهم إذا اقتضى الأمر ذلك، فهم يسرعون إلى طعن أعدائهم كما تعدو الجمال المطلقة من القيود.
(12) فلول: ثلوم.
المعنى: إذا أردت أن أبحث عن عيب في الغساسنة فإنني لن أجده، فعيبهم الوحيد هو تثلم سيوفهم بسبب كثرة المعارك التي يخوضونها، وذلك ليس عيباً وإنما هو شرف لهم.
(13) حليمة: هي حليمة بنت الحارث بن أبي شمر الغساني.
المعنى: إن تلك السيوف مجربة منذ القديم فهي متوارثة من جيل إلى جيل، وقد حارب بها الأبطال الذين انتصروا على المناذرة في ذلك اليوم المعروف بيوم حليمة.
(14) تقد: تشق. السلوقي: الدرع المنسوب إلى سلوق قرية باليمن.
الصفاح: الحجارة ويقصد بها خوذات الجنود. الحباحب: ذباب يطير في الليل فيشع منه النور.
المعنى: إن تلك السيوف تشق الدروع السلوقية المتقنة الصنع، وتري من يشهد المعركة النار تقدح والشرر يتطاير عندما تضرب خوذ الخصوم.
(15) شيمة: طبيعة وخلق. الأحلام: العقول. عوازب: غائبة.
المعنى إن أخلاق الغساسنة فاضلة وعقولهم حاضرة عند الملمات والنوازل وهذه الصفات لا تتوافر في غيرهم من الناس.
(16) حجزاتهم: الحجزة معقد الإزار. الريحان: نبت طيب الرائحة. السباسب: عيد من أعيادهم.
المعنى: إن أولئك القوم ينتعلون النعال الرقيقة فهم لا يمشون كثيراً، وهم أصحاب عفة يصونون أنفسهم عن المحرمات، وفي يوم عيدهم يلاقون بالرياحين العطرة.
(17) الأردان: الأكمام. المناكب: جمع منكب وهو الكتف.
المعنى: والغساسنة يحفظون أجسامهم بما يلبسون من الثياب الفاخرة، تلك الثياب التي تتصف ببياض الأكمام واخضرار الكتفين.
(18) اللازب: اللازم.
المعنى: عندما يصيب الغساسنة خيراً فإنهم لا يغترون، وعندما يصيبهم شر فإنهم لا يجزعون منه فهم ينتظرون زواله.
(19) حبوت: أعطيت وأهديت. أعيت عليَّ مذاهبي: ضاقت وسدت.
المعنى: إنني أقدم هذه القصيدة هدية للغساسنة؛ لأنني أراهم أحق الناس بمدحي في هذه الظروف التي أجبرتني على اللحاق بقومي حين انسدت عليَّ الطرق.
3- دراسة الأفكار:
عندما نستعرض أفكار الشاعر في هذه القصيدة نجده قد بدأها بفكرة طول الليل، فبين أن ذلك الليل لا تتحرك نجومه وأن الهموم قد تجمعت في صدره، وانتقل من هذه الفكرة التي جعلها مقدمة لقصيدته إلى فكرة أخرى وهي مدح عمرو بن الحارث الغساني، وهذه هي الفكرة الرئيسة في القصيدة؛ ولذلك فإن الشاعر قد بسط هذه الفكرة؛ فقد أشاد بإنعام ممدوحه عليه، ثم ذكر انتصاراته في الحروب، وعقب على ذلك بذكر النعمة التي يعيش فيها ممدوحه هو وأسرته. أما الفكرة الثالثة في القصيدة فهي تمثل خاتمة القصيدة حيث تشتمل على ما يحيط بالشاعر من الضيق وما يعانيه من الألم، وقد اختصر التعبير عن هذه الفكرة فجعلها في بيت واحد.
وأفكار الشاعر التي استعرضناها ليست جديدة في معظمها فطول الليل قد ذكره امرؤ القيس، وأما مدح عمرو بن الحارث فقد أبدع الشاعر في عرض أفكاره إلا أن الأفوه الأودي[2] قد سبق الشاعر إلى ذكر الطيور التي تتابع الجيش، وأما وصف المعركة بما فيها من الخيل والفرسان والرماح فقد ذكره معظم الشعراء في الجاهلية، وهناك فكرة جزئية سبق شاعرنا غيره من الشعراء إليها وهي مدح الغساسنة بالمدنية والترف.
وإذا أعدنا النظر في المعاني التي يرغب الشاعر في أدائها وجدنا أنه استوفاها وأداها أداء موفقاً، ذلك أن الترابط بين معاني الشاعر في القصيدة يظهر في مواضع كثيرة من أبرزها وصف الطيور التي تتابع الجيش. والقصيدة لها مقدمة وعرض وخاتمة، فالترابط بين أجزائها موجود وإن لم يصل إلى درجة التلاحم.
وأفكار الشاعر واضحة على الرغم من أنه في موقف صعب يستدعي قابلية الأفكار للتأويل ومع ذلك فلم يلجأ إلى الغموض، فقد مدح الغساسنة أعداء المناذرة الذين أقام عندهم سنين طويلة، بل إنه ذكر يوم حليمة وصرح به، ووضوح أفكار الشاعر يدل على البساطة، وعدم التعقيد يعكس صورة الحياة الجاهلية بصفائها ونقائها.
4- دراسة الأسلوب:
دراسة الأسلوب في هذه القصيدة تقتضي النظر في الألفاظ والتراكيب وحسن أدائها في البيت، فعند ما نستعرض هذه الألفاظ نجدها ألفاظاً فصيحة، وقد استعملها الشاعر استعمالاً مناسباً، ولكن هذه الألفاظ لا تخذو من الغرابة؛ فالكلمات: (عقارب، أشائب، الكواثب، جالب، أرقلوا، فلول، لازب) كلمات غريبة لا يعرفها إلا عالم اللغة، ولكن هذه الكلمات قليلة إذا نسبناها إلى مجمل ألفاظ القصيدة، وعلى هذا نقول إن الألفاظ في مجملها ألفاظ متداولة ومعروفة. ويستثنى من ذلك عدد من الألفاظ التي تعتريها الغرابة.
والتراكيب تتكون من الألفاظ، ولكن مهارة الشاعر تظهر في تنسيق الألفاظ وترتيبها ورصفها في نسق معين حتى يبدو التركيب جميلاً يؤدي المعنى بوضوح. والنابغة من أمهر الشعراء في بناء التراكيب؛ ولذلك جاءت القصيدة سليمة البناء. وإن كانت لا تخلو من بعض التراكيب التي تحتاج إلى الوقوف عندها أكثر من غيرها مثل:
(أراح الليل عازب همه)، (وتوقد بالصفاح نار الحباحب)، (وإذ أعيت على مذاهبي)، فدرجة الوضوح في تراكيب القصيدة متفاوتة، ومع ذلك فإنها تخلو من التعقيد.
والقصيدة تشتمل على صور بديعة منها صور الطيور التي تتابع الجيش، وذلك مما ساهم في رقي أسلوب الشاعر. فأسلوبه حسن الصياغة، بعيد عن الإسفاف والابتذال، فهو يمثل أسلوب القصيدة الجاهلية خير تمثيل.